22‏/10‏/2012

الوقف..الأثر و الأجر المُستدام

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمدلله و الصلاة و السلام على رسول الله

الوقف بالمعنى اللغوي أن تحبس الشيء، فلو أوقفت الخيل حبسته. أما المعنى الذي أقصده حبس أصل المال عن التصرف به (مثلاً عقار أو تجارة أو حتى جامعة!!) لغرض أن يستخدم خراجه (مثلاً أرباح التجارة) لمنفعة الغير و رغبة في الأجر فقط. يقول صلى الله عليه وسلم : "إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته علماً علمه نشره و ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه، أو بيتاً لإبن السبيل بناه، أو نهراً  أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته و حياته تلحقه من بعد موته".*

و من اسباب النهضة العلمية للعرب و للمسلمين خصوصاً في العصر العباسي فهو الأوقاف التي تم من خلالها تأسيس العديد من المكتبات و الجامعات وحتى دعم العلماء بشكل فردي كان يتم من خلال الأوقاف. و الأمثلة على الوقف في الأسلام كثيرة و و قد يغنيني كثرة سرد الأمثلة هنا بقول من الصاحبي جابر بن عبدالله رضي الله عنه : "لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف".


أما عن وصف جميل لمشهد من مشاهد الوقف فقد وجدته في رواية "سمرقند" لأمين معلوف* -و إن كان لي بعض التحفظات على هذه الرواية-. في هذا المشهد من الرواية يسافر بطل الرواية عمر الخيام داخل دولة السلاجقة (وهو عالم من أصل عربي له إبداعات علمية و أدبية متعددة) إلى سمرقند فيستقبله رجل على أطراف المدينة يصفه عمر الخيام كالآتي -أقتبس هنا من نص الرواية صفحة ٣١ مع بعض التصرف-:
كان هذا الرجل يبدو من  طبقة متواضعة بيد أن ثيابه كانت نظيفة، و لم يكن يجهل عادات الناس المحترمين.  تَبعتُه و على بُعد خطوات أدخلني من باب ضخم فاجتزتُ دهليزا مُقنطراً أفضى إلى فِناء في وسطه بئر و يمتلأ بالبهائم و الناس منهمكين بالعمل، و حوله على مدى دورين غرف للمسافرين قال الرجل: 
-"بوسعك البقاء هنا قدر ماتشاء، لليلةَ أو فصلاً، و سوف تجد الفراش و الطعام و العلف لبغلتك.
و حين سألته عن الأجرة أبدى استياءه قائلاً:
-أنت هنا ضيف سيدي.
-وأين أجد هذا المضيف الكريم لأوجه إليه آيات الشكر؟
-مات سيدي منذ سبع سنوات تاركاً لي مبلغاً من المال يجب أن أنفقه بأكمله في تكريم زوار سمرقند.
- و ما اسم هذا المولى فأستطيع على الأقل أن أُخبِر بأفضاله؟
-الله تعالى وحده يستحق عرفانك فاشكره، و هو يعرف الإنسان الذي كانت أفضاله سبيلاً إلى التسبيح بحمده.
"و هكذا قضيت عند ذلك الرجل عدة أيام، فكنت أخرج و أعود فأجد على الدوام أطباقاً حافلة بأشهى الوجبات، و كان يتم الإعتناء بدابتي أفضل مما لو كنت أقوم بها أنا نفسي."


المشهد يصف إحدى أنواع الوقف (وقف المسافر أو ابن السبيل) التي كانت منتشرة و يتفاخر و يتنافس بها العالم المسلم آن ذاك. أما الدافع لمثل هذا العمل فهو مأخوذ من دافع الأجر و الثواب في الدار الآخر، و الحرص على أجر يمتد إلى مابعد الممات بسنين.



و من الأمثلة المتميزة للوقف و إن كانت ليست من العالم الإسلامي هي جامعات الآيفي ليج Ivy League وهي ثمانية جامعات من أعرق و أقوى جامعات العالم و تشمل هارفرد و ستانفورد و ييل و كولومبيا. بالطبع تم تأسيس هذه الجامعات و دعمها مادياً و حتى الآن من الأوقاف. أما جامعة هارفرد فدعمها المالي الوقفي هو الأعلى لأي مؤسسة تعليمية في العالم و هو عبارة عن ٣٢ بليون دولار. طبعاً هذا الرقم يساوي ميزانيات دول مجتمعة فما بالك بجامعة واحدة. أقل وقف مالي لجامعات الآيفي ليج هو لجامعة براون و هو ٢ و نصف بليون دولار تقريباً! .. دولار أمريكي طبعاً لمن يريد الحساب...

داخل هذه الجامعات و غيرها من الجامعات الغربية العديد من الأوقاف المختلفة، ذلك يشمل مراكز الأبحاث، الأقسام، المكتبات و حتى المباني! و بعض هذه يتم تسميته باسم من يقوم بتمويل الوقف. أحد الأمثلة الأبرز هو مؤسسة هاورد هيوز الطبية و هو ثاني أكبر وقف مخصص للأبحاث الطبية في أمريكا. المركز أسسه صاحب الأعمال الغني هاورد هيوز Howard Hughes عام ١٩٥٣ و قيمة هذا الوقف في عام ٢٠١١ يساوي ١٦ بليون دولار!

بالنسبة لعالمنا العربي، فإن أكبر وقف مخصص للتعليم و البحث هي جامعة الملك عبدالله للعلوم و التكنولوجيا و الذي تمثل قيمته ١٠ بليون دولار و الذي اتمنى أن تظهر نتائجه المشرفة قريباً بإذن الله.


المشجع في الأوقاف خصوصاً المرتبطة بالعلم أو كما يقول رسول الله "علمً ينتفع به" أن الجامعات مثلاً أو مراكز الأبحاث هذه تُنتج الأبحاث العلمية و يتم بناء أبحاث علمية أخرى على هذه الأبحاث. و كل بحث ينتفع من البحث الأصلي و إن كان لمئات السنين لاحقاً سيعود أجره لمؤسس هذا المركز أو من قام بدفع مبلغ وقفي لهذه الجامعة. و هو نمو ضخم و مهول أو أُسي exponential كما يقولون في الرياضيات للأجر و المنفعة (خصوصاً لمن أخلص النية لله سبحانه و تعالى). و كما بناء المساجد له أجر كبير، فبناء الجامعات و مراكز الأبحاث لها أجر كبير و منفعة للناس. فتخيل لو أنك أسست لمركز أبحاث كان له الفضل بعد الله في إيجاد شفاء للسرطان مثلاً. فكم من المنفعة و الأجر سيتحقق لك! بل و الشكر من الناس و الذكرى الطيبة.

البناء هنا لايشمل المال الوقفي فقط فالعمل أيضاً في البناء و التأسيس و مع إخلاص النية قد تتحول نتيجته إلى وقف ذو أجر مستمر بإذن الله. فمن ساهم في وضع و لو لبنة في المسجد أو الجامعة أو المدرسة له الأجر و الثواب أيضاً إن شاء الله.

فإن كان هناك شيء من حضاري يجب أن ينتشر في روح المسلم فهو الوقف، و الذي سيضمن بإذن الله "الأثر على الطريق" في الدنيا و الآخرة. أترككم مع وصف مفيد و ممتع عن الوقف من قناة KonoozTube على اليوتيوب -كنوز من حضارتنا \ الوقف  :-





المصادر التي لم يتم الإشارة إليها في التدوينة:
* رواية سمرقند لأمين معلوف

هناك 4 تعليقات:

هشام الإدريسي يقول...

جزاك الله خير ابو آيات
موضوع مميز مهم قلّما يثار
تحياتي...
اخوك
هشام الادريسي

Ibrahim Abu Nadi يقول...

تسلم أبوعبدالله شكراً

محمد وليد يقول...

شكررررررررررآ جزيلآ لكم

يعطيكم ربي الف عافية

Ibrahim Abu Nadi يقول...

الله يبارك فيك محمد، جزاك الله خير على الدعاء.